فصل: الآية رقم ‏(‏53‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏53‏)‏

‏{‏وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان‏{‏ ‏{‏إذا‏{‏ اسم للوقت الماضي و‏{‏إذا‏{‏ اسم للوقت المستقبل و‏{‏آتينا‏{‏ أعطينا وقد تقدم جميع هذا والكتاب‏:‏ التوراة بإجماع من المتأولين واختلف في الفرقان فقال الفراء وقطرب‏:‏ المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا عليه السلام الفرقان قال النحاس‏:‏ هذا خطأ في الإعراب والمعنى أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه وأما المعنى فقد قال تعالى ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان‏{‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ يكون الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره باسمين تأكيدا وحكي عن الفراء ومنه قول الشاعر‏:‏

وقدمت الأديم لراهشيه وألفى قولها كذبا ومينا

وقال آخر ‏:‏

ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد

فنسق البعد على النأي والمين على الكذب لاختلاف اللفظين تأكيدا ومنه قول عنترة‏:‏

حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

قال النحاس‏:‏ وهذا إنما يجيء في الشعر وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد‏:‏ فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه وقال ابن زيد الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا فعبروا وقيل‏:‏ الفرقان الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ومنه قوله تعالى ‏{‏إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا‏} ‏ُ أي فرجا ومخرجا وقيل‏:‏ إنه الحجة والبيان قال ابن بحر وقيل الواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان والواو قد تزاد في النعوت كقولهم فلان حسن وطويل وأنشد ‏:‏

إلى الملك القرم وبن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

أراد إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة ودليل هذا التأويل قوله عز وجل‏{‏ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء‏} أي بين الحرام والحلال والكفر والإيمان والوعد والوعيد وغير ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون أنجى هؤلاء وأغرق أولئك ونظيره‏{‏يوم الفرقان‏{‏ فقيل يعني به يوم بدر نصر الله فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهلك أبا جهل وأصحابه‏.‏

قوله تعالى‏{‏لعلكم تهتدون ‏{‏لكي تهتدوا من الضلالة وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏54‏)‏

‏{‏وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قال موسى لقومه‏{‏ القوم‏:‏ الجماعة الرجال دون النساء قال الله تعالى‏{‏لا يسخر قوم من قوم‏} ‏ ثم قال‏{‏ولا نساء من نساء‏} ‏ وقال زهير‏:‏

وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

وقال تعالى‏{‏ولوطا إذ قال لقومه‏}‏ أراد الرجال دون النساء وقد يقع القوم على الرجل والنساء قال الله تعالى‏{‏إنا أرسلنا نوحا إلى قومه‏}‏ وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعا‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا قوم‏{‏ منادى مضاف وحذفت الياء في ‏{‏يا قوم‏{‏ لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول‏:‏ يا قومي لأنها اسم وهي في موضع خفض وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت‏:‏ يا قوميه وإن شئت أبدلت منها ألفا لأنها أخف فقلت‏:‏ يا قوما وإن شئت قلت‏:‏ يا قوم بمعنى يا أيها القوم وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ وتقول‏:‏ قوم وأقوام وأقاوم جمع الجمع والمراد هنا بالقوم عبدة العجل وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنكم ظلمتم أنفسكم‏{‏ استغنى بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة والقليل موضع الكثرة قال الله تعالى‏{‏ثلاثة قروء‏{‏ ‏{‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ وقال ‏{‏وفيها ما تشتهيه الأنفس‏}‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏ ويقال لكل من فعل فعلا يعود عليه ضرره‏:‏ إنما أسأت إلى نفسك وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه‏.‏

قوله تعالى‏{‏باتخاذكم العجل‏{‏ قال بعض أرباب المعاني‏:‏ عجل كل إنسان نفسه فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل والحمد لله

قوله تعالى‏{‏فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم‏{‏ لما قال لهم فتوبوا إلى بارئكم قالوا كيف‏؟‏ قال ‏{‏فاقتلوا أنفسكم‏{‏ قال أرباب الخواطر ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات والصحيح أنه قتل على الحقيقة هنا والقتل‏:‏ إماتة الحركة وقتلت الخمر‏:‏ كسرت شدتها بالماء قال سفيان بن عينه التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل‏.‏ وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري‏:‏ لما قيل لهم‏{‏فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم‏{‏ قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم‏:‏ كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي على ما تقدم وقال بعض المفسرين‏:‏ أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك وقيل‏:‏ وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم‏.‏ وقيل‏:‏ قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا - إذ لم يعبدوا العجل - من عبدالعجل‏.‏ ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال‏:‏ ملعون من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو أتقاه‏.‏ بيد أو رجل فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم - يعني من قتل - وأقبل الرجل يقتل من يليه ذكره النحاس وغيره وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم - على القول الأول - لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده‏.‏ وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع روى جرير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب‏)‏ أخرجه ابن ماجة في سننه وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى‏.‏ فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما‏.‏ وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة وقرأ قتادة فأقيلوا أنفسكم - من الإقالة - أي استقبلوها من العثرة بالقتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ بارئكم‏{‏ البارئ الخالق وبينهما فرق وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال والبرية‏:‏ الخلق وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز وقرأ أبو عمرو ‏{‏بارئكم‏{‏ - بسكون الهمزة - ويشعركم وينصركم ويأمركم واختلف النحاة في هذا فمنهم من يسكن الضمه والكسرة في الوصل وذلك في الشعر وقال أبو العباس المبرد‏:‏ لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر وقراءة أبي عمرو لحن قال النحاس وغيره‏:‏ وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا‏:‏

إذا اعوججن قلت صاحب قوم بالدو أمثال السفين العوم

وقال امرؤ القيس‏:‏

فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل

وقال آخر‏:‏ قالت سليمى اشتر لنا سويقا

وقال الآخر‏:‏ رحت وفي رجليك ما فيهما وقد بدا هنك من المئزر

فمن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للإعراب قال أبو علي‏:‏ وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات وأصل برأ من تبري الشيء من الشيء وهو انفصاله منه فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود ومنه برئت من المرض برءا بالفتح كذا يقول أهل الحجاز وغيرهم يقول‏:‏ برئت من المرض برءا بالضم وبرئت منك ومن الديون والعيوب براءة ومنه المبارأة للمرأة وقد بارأ شريكه وامرأته

قوله تعالى‏{‏فتاب عليكم‏}‏ في الكلام حذف تقديره ففعلتم ‏{‏فتاب عليكم‏{‏ أي فتجاوز عنكم أي على الباقين منكم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنه هو التواب الرحيم‏{‏ تقدم معناه والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏55‏)‏

‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله‏{‏ ‏{‏وإذ قلتم‏{‏ معطوف ‏{‏يا موسى‏{‏ نداء مفرد ‏{‏لن نؤمن لك‏{‏ أي نصدقك ‏{‏حتى نرى الله جهرة‏{‏ قيل‏:‏ هم السبعون الذين اختارهم موسى وذلك أنهم لما أسمعهم كلام الله تعالى قالوا له بعد ذلك‏{‏لن نؤمن لك‏}‏البقرة‏:‏ 55‏]‏ والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم فأرسل الله عليهم نارا من السماء فأحرقهم ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى‏{‏ثم بعثناكم من بعد موتكم‏}‏البقرة‏:‏ 56‏]‏ وستأتي قصة السبعين في الأعراف إن شاء الله تعالى قال ابن فورك‏:‏ يحتمل أن تكون معاقبتهم لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقة بقولهم لموسى ‏{‏أرنا الله جهرة‏}‏النساء‏:‏ 153‏]‏ وليس ذلك من مقدور موسى عليه السلام

وقد اختلف في جواز رؤية الله تعالى فأكثر المبتدعة على إنكارها في الدنيا والآخرة وأهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة فعلى هذا لم يطلبوا من الرؤية محالا وقد سألها موسى عليه السلام‏.‏ وسيأتي الكلام في الرؤية في ‏{‏الأنعام‏{‏ و‏{‏الأعراف‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏جهرة ‏{‏مصدر في موضع الحال ومعناه علانية وقيل عيانا قاله ابن عباس وأصل الجهر الظهور ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها والمجاهرة بالمعاصي‏:‏ المظاهرة بها ورأيت الأمير جهارا وجهرة أي غير مستتر بشيء وقرأ ابن عباس ‏{‏جهرة‏{‏ بفتح الهاء وهما لغتان مثل زهرة وزهرة وفي الجهر وجهان‏:‏

أحدهما - أنه صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به وأعلنوا فيكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير‏:‏ وإذ قلتم جهرة يا موسى‏.‏

الثاني - أنه صفة لما سألوه من روية الله تعالى أن يروه جهرة وعيانا فيكون الكلام عله نسقه لا تقديم فيه ولا تأخير وأكد بالجهر فرقا بين رؤية العيان ورؤية المنام‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأخذتكم الصاعقة‏{‏ قد تقدم في أول السورة معنى الصاعقة وقرأ عمر وعثمان وعلي ‏{‏الصعقة‏{‏ وهي قراءة ابن محيصين في جميع القرآن‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأنتم تنظرون‏{‏ جملة في موضع الحال ويقال‏:‏ كيف يموتون وهم ينظرون‏؟‏ فالجواب أن العرب تقول دور آل فلان تراءى أي يقابل بعضها بعضا وقيل‏:‏ المعنى ‏{‏تنظرون‏{‏ أي إلى حالكم وما نزل بكم من الموت وآثار الصعقة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏56‏)‏

‏{‏ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون‏}‏

أي أحييناكم‏.‏ قال قتادة‏:‏ ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا والمعنى ‏{‏لعلكم تشكرون‏{‏ ما فعل بكم من البعث بعد الموت وقيل‏:‏ ماتوا موت همود يعتبر به الغير، ثم أرسلوا وأصل البعث الإرسال‏.‏ وقيل‏:‏ بل أصله إثارة الشيء من محله، يقال‏:‏ بعثت الناقة‏:‏ أثرتها، أي حركتها، قال امرؤ القيس‏:‏

وفتيان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعا بين ونشوان

وقال عنترة‏:‏

وصحابة شم الأنوف بعثتهم ليلا وقد مال الكرى بطلاها

وقال بعضهم‏{‏بعثناكم من بعد موتكم‏}‏ ‏.‏علمناكم من بعد جهلكم‏.‏

قلت‏:‏ والأول أصح، لأن الأصل الحقيقة، وكان موت عقوبة، ومنه قوله تعالى‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ‏} ‏ على ما يأتيُ

قال الماوردي‏:‏ واختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين‏:‏ أحدهما - بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبد‏.‏ الثاني‏:‏ سقوط تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار‏.‏

قلت‏:‏ والأول أصح، فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطا عليهم والنار محيطة بهم وذلك مما اضطرهم إلى الإيمان، وبقاء التكليف ثابت عليهم، ومثلهم قوم يونس‏.‏ ومحال أن يكونوا غير مكلفين والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏57‏)‏

‏{‏وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وظللنا عليكم الغمام‏{‏ أي جعلناه عليكم كالظلة‏.‏ والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب قاله الأخفش سعيد‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويجوز غمائم وهي السحاب لأنها تغم المساء أي تسترها وكل مغطى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله‏.‏ وغم الهلال إذا غطاه الغيم والغين مثل الغيم ومنه قول عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنه ليغان على قلبي‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ غين عليه غطى عليه والغين شجر ملتف وقال السدي‏:‏ الغمام السحاب الأبيض وفعل هذا بهم ليقيهم حر الشمس نهارا وينجلي في آخره ليستضيؤوا بالقمر ليلا وذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى‏{‏فاذهب أنت وربك فقاتلا‏}‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ فعوقبوا في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيت كانوا بكرة أمس‏.‏ وإذا كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لموسى‏:‏ من لنا بالطعام فأنزل الله عليهم المن والسلوى قالوا من لنا من حر الشمس فظلل عليهم الغمام‏.‏ قالوا‏:‏ فبم نستصبح فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم وذكر مكي‏:‏ عمود من نار قالوا‏:‏ من لنا بالماء فأمر موسى بضرب الحجر قالوا‏:‏ من لنا باللباس فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأنزلنا عليكم المن والسلوى‏{‏ اختلف في المن ما هو وتعيينه على أقوال فقيل‏:‏ الترنجبين - بتشديد الراء وتسكين النون ذكره النحاس ويقال‏:‏ الطرنجبين بالطاء - وعلى هذا أكثر المفسرين وقيل‏:‏ صمغة حلوة وقيل عسل‏:‏ وقيل شراب حلو‏.‏ وقيل‏:‏ خبز الرقاق عن وهب بن منبه وقيل‏{‏المن‏{‏ مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏ ‏(‏الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين‏)‏ في رواية ‏(‏من المن الذي أنزل الله على موسى‏)‏‏.‏‏"‏ رواه مسلم‏"‏ قال علماؤنا‏:‏ وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بني إسرائيل أي مما خلقه الله لهم في الآية قال أبو عبيد‏:‏ إنما شبهها بالمن لأنه لا مؤونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج فهي منه أي من جنس مَن بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف روي أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه فإن ادخر منه شيئا فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لأن يوم السبت يوم عبادة وما كان ينزل عليهم يوم السبت شيء‏.‏

لما نص عليه السلام على أن ماء الكمأة شفاء للعين قال بعض أهل العلم بالطب‏:‏ أما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة وأما لغير ذلك فمركبة مع غيرها وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتا في جميع مرض العين‏.‏ وهذا كما استعمل أبو وجزة العسل في جميع الأمراض كلها حتى في الكحل على ما يأتي بيانه في سورة ‏{‏النحل‏{‏ إن شاء الله تعالى وقال أهل اللغة‏:‏ الكمء واحد وكمآن اثنان وأكمؤ ثلاثة فإذا زادوا قالوا كمأة - بالتاء - على عكس شجرة وشجر والمن اسم جنس لا واحد له لفظه مثل الخير والشر قاله الأخفش‏.‏

قوله تعالى‏{‏والسلوى‏{‏ اختلف في السلوى فقيل‏:‏ هو السماني بعينه قاله الضحاك قال ابن عطية‏:‏ السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي فقال‏:‏

وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها

ظن السلوى العسل‏.‏

قلت‏:‏ ما ادعاه من الإجماع لا يصح وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير‏:‏ إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وذكر أنه كذلك بلغة كنانة سمي به لأنه يسلى به ومنه عين السلوان، وأنشد‏:‏

لو أشرب السلوان ما سليت ما بي غنى عنك وإن غنيت

وقال الجوهري‏:‏ والسلوى العسل وذكر بيت الهذلي‏:‏

ألذ من السلوى إذا ما نشورها

ولم يذكر غلطا والسلوانة بالضم‏:‏ خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال‏:‏

شربت على سلوانة ماء مزنة فلا وجديد العيش ياميّ ما أسلو

واسم ذلك الماء السلوان وقال بعضهم السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمونه المفرح يقال‏:‏ سليت وسلوت لغتان‏.‏ وهو في سلوة من العيش أي في رغد عن أبى زيد‏.‏

واختلف في السلوى هل هو جمع أو مفرد فقال الأخفش‏:‏ جمع لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته كما قالوا‏:‏ دفلى للواحد والجماعة وسمانى وشكاعى في الواحد والجميع‏.‏ وقال الخليل‏:‏ واحده سلواة وأنشد‏:‏

وإني لتعروني لذكرك هزة كما أنتفض السلواة من بلل القطر

وقال الكسائي‏:‏ السلوى واحدة وجمعه سلاوى

‏{‏السلوى‏{‏ عطف على ‏{‏المن‏{‏ ولم يظهر فيه الإعراب لأنه مقصور ووجب هذا في المقصور كله لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف‏.‏ قال الخليل‏:‏ والألف حرف هوائي لا مستقر له فأشبه الحركة فاستحالت حركته وقال الفراء‏:‏ لو حركت الألف صارت همزة‏.‏

قوله تعالى‏{‏كلوا من طيبات ما رزقناكم‏{‏ ‏{‏كلوا‏{‏ فيه حذف تقديره وقلنا كلوا فحذف اختصار الدلالة الظاهر عليه والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما ظلمونا‏{‏ يقدر قبله فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏{‏ لمقابلتهم النعم بالمعاصي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏58‏)‏

‏{‏وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قلنا ادخلوا‏{‏ حذفت الألف من ‏{‏قلنا‏{‏ لسكونها وسكون الدال بعدها والألف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لأنه من يدخل‏.‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏هذه القرية‏{‏ أي المدينة سميت بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته واسم ذلك الماء قرى بكسر القاف مقصور وكذلك ما قري به الضيف قال الجوهري‏:‏ والمقراة للحوض والقري لمسيل الماء والقرا للظهر ومنه قوله‏:‏

لاحق بطن بقرا سمين

والمقاري‏:‏ الجفان الكبار‏.‏ قال‏:‏

عظام المقاري ضيفهم لا يفزع

وواحد المقاري مقراة وكله بمعنى الجمع غير مهموز والقرية بكسر القاف لغة اليمن واختلف في تعيينها فقال الجمهور‏:‏ هي بيت المقدس وقيل‏:‏ أريحاء من بيت المقدس قال عمر بن شبة كانت قاعدة ومسكن ملوك‏.‏ ابن كيسان الشام‏:‏ الضحاك‏:‏ الرملة والأردن وفلسطين وتدمر‏.‏ وهذه نعمه أخرى وهى أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏فكلوا منها حيث شئتم‏{‏ إباحة‏.‏

قوله تعالى‏{‏رغدا‏{‏ كثيرا واسعا وهو نعت لمصدر محذوف أي أكلاً رغداً ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدم وكانت أرضا مباركة عظيمة الغلة فلذلك قال ‏{‏رغدا‏{‏

قوله تعالى‏{‏وادخلوا الباب سجدا‏{‏ الباب يجمع أبوابا وقد قالوا‏:‏ أبوبة للازدواج قال الشاعر‏:‏

هتاك أخيية ولاج أبوبة يخلط بالبر منه الجد واللينا

ولو أفرده لم يجز‏.‏ ومثله قول عليه السلام‏:‏ ‏(‏مرحبا بالقوم - أو بالوفد - غير خزايا ولا ندامى‏)‏ وتبوبت بوابا اتخذته‏.‏ وأبواب مبوبة كما قالوا‏:‏ أصناف مصنفة‏.‏ وهذا شيء من بابتك أي يصلح لك‏.‏ وقد تقدم معنى السجود فلا معنى لإعادته والحمد لله‏.‏

والباب الذي أمروا بدخول هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بـ ‏{‏باب حطه‏{‏ عن مجاهد وغيره وقيل‏:‏ باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل و‏{‏سجدا‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ منحنين ركوعا وقيل‏:‏ متواضعين خشوعا لا على هية متعينة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقولوا‏{‏ عطف على ادخلوا‏.‏

قوله تعالى‏{‏حطة‏{‏ بالرفع قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة أو يكون حكاية‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وقرئت ‏{‏حطة‏{‏ بالنصب على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة‏.‏ قال النحاس‏:‏ الحديث عن ابن عباس أنه قيل لهم‏:‏ قولوا لا إله إلا الله وفي حديث آخر عنه قيل لهم قولوا مغفرة - تفسير للنصب، أي قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال‏:‏ قل خيرا والأئمة من القراء على الرفع‏.‏ وهو أولى في اللغة لما حكي عن العرب في معنى بدل قال أحمد بن يحيى‏:‏ يقال بدلته، أي غيرته ولم أزل عينه‏.‏ وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال‏:‏

عزل الأمير للأمير المبدل

وقال الله عز وجل‏{‏قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله‏}‏يونس‏:‏ 15‏]‏ وحديث ابن مسعود قالوا ‏{‏حطة‏{‏ تفسير على الرفع هذا كله قول النحاس وقال الحسن وعكرمة‏{‏حطه‏{‏ بمعنى حط ذنوبنا، أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله ليحط بها ذنوبهم‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ معناه الاستغفار أبان بن تغلب‏:‏ التوبة قال الشاعر‏:‏

فاز بالحطة التي جعل اللـ ـه بها ذنب عبده مغفورا

وقال ابن فارس في المجمل‏{‏حطة‏{‏ كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم وقاله الجوهري أيضا في الصحاح‏.‏

قلت‏:‏ يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه وهو الظاهر من الحديث ‏"‏روى مسلم عن أبي هريرة‏"‏‏:‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة‏)‏‏"‏ وأخرجه البخاري‏"‏ وقال‏:‏ ‏(‏فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة‏)‏ في غير الصحيحين حنطة في شعر وقيل‏:‏ قالوا هطا سمهاثا وهي لفظة عبرانية تفسيرها‏:‏ حنطة حمراء حكاها ابن قتيبة وحكاه الهروي عن السدي ومجاهد وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمردوا واستهزؤوا فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب وقال ابن زيد‏:‏ كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا‏.‏ وروي أن الباب جعل فصيرا ليدخلوه ركعا فدخلوه متوركين على أستاههم والله أعلم‏.‏

استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه‏.‏

وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فحكي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله وهو قول الجمهور‏.‏ ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة وقال مجاهد‏:‏ انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه‏.‏ وكان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التاء والياء ونحو هذا وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحونا ويعلمون ذلك ولا يغيرونه‏.‏ و روى أبو مجلز عن قيس بن عباد قال قال عمر بن الخطاب من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم‏.‏ و روى نحوه عن عبدالله بن عمرو وزيد بن أرقم‏.‏ وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ‏.‏

وذلك هو الأحوط في الدين والأتقى والأولى ولكن أكثر العلماء على خلافه‏.‏ والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ولا كتبها‏.‏ وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال‏:‏ ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم حسبكم المعنى‏.‏ وقال قتادة عن زرارة بن أوفى‏:‏ لقيت عده من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا علي في اللفظ واجتمعوا في المعنى وكان النخعي والحسن والشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني وقال الحسن‏:‏ إذا أصبت المعنى أجزأك‏.‏ وقال سفيان الثوري رحمه الله‏:‏ إذا قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى‏.‏ وقال وكيع رحمه الله‏:‏ إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس‏.‏ واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم وذلك هو النقل بالمعنى‏.‏ وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلقة والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والإلغاء والزيادة والنقصان‏.‏ وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز بالعربية أولى‏.‏ احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي وهو الصحيح في الباب‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها كما سمعها‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه‏:‏ ‏(‏آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت‏)‏ فقال الرجل‏:‏ ورسولك الذي أرسلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏ونبيك الذي أرسلت‏)‏ قالوا‏:‏ أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال‏:‏ ‏(‏فأداها كما سمعها‏)‏ قيل لهم‏:‏ أما قوله ‏(‏فأداها كما سمعها‏)‏ فالمراد حكمها لا لفظها لأن اللفظ غير معتد به‏.‏ ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله‏:‏ ‏(‏فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه‏)‏ ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة وذلك أدل على الجواز وأما رده عليه السلام الرجل من قوله‏:‏ ‏(‏ورسولك - إلى قوله - ونبيك‏)‏ لأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع‏.‏ ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي صلى الله عليه وسلم يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة‏.‏ فلما قال‏:‏ ‏(‏ونبيك‏)‏ جاء بالنعت الأمدح ثم قيده بالرسالة بقوله‏:‏ ‏(‏الذي أرسلت‏)‏ وأيضا فإن نقله من قوله‏:‏ ‏(‏ورسولك - إلى قوله - ونبيك‏)‏ ليجمع بين النبوة والرسالة‏.‏ ومستقبح في الكلام أن تقول‏:‏ هذا رسول فلان الذي أرسله وهذا قتيل زيد الذي قتله لأنك تجتزئ بقولك‏:‏ رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول‏.‏ وإنما يحسن أن تقول‏:‏ هذا رسول عبدالله الذي أرسله إلى عمرو وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أوفي وقعة كذا والله ولي التوفيق‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا جاز للراوي الأول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغيير ألفاظ الأول ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها‏.‏ قيل له‏:‏ الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا فإن عدمت لم يجز‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت والفهوم قد تباينت والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق والله أعلم‏.‏

قال بعض علمائنا‏:‏ لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله فإن الجواز إذا كان مشروطا بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ولهذا لم يفصل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل‏.‏ نعم، لو قال‏:‏ المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب والله اعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏نغفر لكم خطاياكم‏{‏ قراءة نافع بالياء مع ضمها وابن عامر بالتاء مع ضمها وهي قراءة مجاهد وقرأها الباقون بالنون مع نصبها وهي أبينها لأن قبلها ‏{‏وإذ قلنا ادخلوا‏{‏ فجرى ‏{‏نغفر‏{‏ على الأخبار عن الله تعالى، والتقدير وقلنا ادخلوا الباب سجدا نغفر ولان بعده ‏{‏وسنزيد‏{‏ بالنون‏.‏ و‏{‏خطاياكم‏{‏ اتباعا للسواد وأنه على بابه‏.‏ ووجه من قرأ بالتاء أنه أثبت لتأنيث لفظ الخطايا لأنها جمع خطيئة على التكسير‏.‏ ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله على ما تقدم في قوله‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات‏}‏البقرة‏:‏ 37‏]‏ وحسن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله ‏{‏وإذ قلنا‏{‏ لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى فاستغنى عن النون ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة‏.‏

واختلف في أصل خطايا جمع خطية بالهمزة فقال الخليل‏:‏ الأصل في خطايا أن يقول‏:‏ خطايئ ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول‏:‏ خطائىء ولا تجتمع همزتان في كلمة، فأبدلت من الثانية ياء فقلت‏:‏ خطائى ثم عملت كما عملت في الأول‏.‏ وقال الفراء‏:‏ خطايا جمع خطية بلا همزة كما تقول‏:‏ هدية وهدايا‏.‏ قال الفراء‏:‏ ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت خطاءا وقال الكسائي‏:‏ لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت‏:‏ دواب‏.‏

قوله تعالى‏{‏وسنزيد المحسنين‏{‏ أي في إحسان من لم يعبد العجل‏.‏ ويقال‏:‏ يغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد‏.‏ ويقال‏:‏ يغفر خطايا من هو عاص وسيزيد في إحسان من هو محسن أي نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم‏.‏ وهو اسم فاعل من أحسن‏.‏ والمحسن من صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على أداء فرائضه وكفى المسلمين شره‏.‏ وفي حديث جبريل عليه السلام‏:‏ ‏(‏ما الإحسان قال أن تعبدالله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ ‏"‏خرجه مسلم‏.‏‏"‏

 الآية رقم ‏(‏59‏)‏

‏{‏فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهمْ‏}‏ ‏{‏الذين‏{‏ في موضع رفع أي فبدل الظالمون منهم قولا غير الذي قيل لهم‏.‏ وذلك أنه قيل لهم‏:‏ قولوا حطة فقالوا حنطة، على ما تقدم فزادوا حرفا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر‏.‏ هذا في تغير كلمة هي عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود هذا والقول أنقص من العمل فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل‏.‏

‏{‏فبدل‏{‏ تقدم معنى بدل وأبدل وقرئ ‏{‏عسى ربنا أن يبدلنا‏{‏ على الوجهين قال الجوهري‏:‏ وأبدلت الشيء بغيره‏.‏ وبدله الله من الخوف أمنا‏.‏ وتبديل الشيء أيضا تغييره وإن لم يأت ببدل‏.‏ واستبدل الشيء بغيره، وتبدل به إذا أخذه مكانه‏.‏ والمبادلة التبادل‏.‏ والأبدال‏:‏ قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر‏.‏ قال ابن دريد الواحد بديل والبديل البدل‏.‏ وبدل الشيء‏:‏ غيره يقال‏:‏ بدل وبدل لغتان مصل‏:‏ شبَه وشِبْه ومثَلَ ومِثْل ونكَلَ ونِكْل قال أبو عبيد‏:‏ لم يسمع في فعَلَ وفِعْل غير هذه الأربعة اليدين والرجلين‏.‏ وقد بدل بالكسر يبدل بدلا‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأنزلنا على الذين ظلموا‏}‏كرر لفظ ‏{‏ظلموا‏{‏ ولم يضمره تعظيما للأمر‏.‏ والتكرير يكون على ضربين أحدهما استعماله بعد تمام الكلام كما في هذه الآية وقوله‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ ثم قال بعد‏{‏فويل لهم مما كتبت أيديهم‏{‏ ولم يقل‏:‏ مما كتبوا وكرر الويل تغليظا لفعلهم ومنه قول الخنساء‏:‏

تعرقني الدهر نهسا وحزا وأوجعني الدهر قرعا وغمزا

أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه وصغيرياتها والضرب الثاني‏:‏ مجي تكرير الظاهر في موضع المضمر قبل أن يتم الكلام كقوله تعالى ‏{‏الحاقة ما الحاقة‏}‏الحاقة‏:‏1 - 2‏]‏ و‏{‏القارعة ما القارعة‏}‏القارعة‏:‏ 1 - 2‏]‏ كان القياس لولا ما أريد به من التعظيم والتفخيم‏:‏ الحاقة ما هي، والقارعة ما هي، ومثله‏{‏فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة‏.‏‏{‏ كرر ‏{‏أصحاب الميمنة‏{‏ تفخيما لما ينيلهم من جزيل الثواب وكرر لفظ ‏{‏أصحاب المشأمة‏{‏ لما ينالهم من أليم العذاب‏.‏ ومن هذا الضرب قول الشاعر‏:‏

ليت الغراب غداة ينعب دائبا كان الغراب مقطع الأوداج

وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال‏:‏

لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فكرر لفظ الموت ثلاثا وهو من الضرب الأول ومنه قول الآخر‏:‏

ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد

فكرر ذكر محبوبته ثلاثا تفخيما لها

قوله تعالى‏{‏رجزا من السماء‏{‏ قراءة الجماعة ‏{‏رجزا‏{‏ بكسر الراء وابن محيصن بضم الراء والرجز‏:‏ العذاب بالزاي وبالسي‏)‏ النتن والقذر ومنه قوله تعالى‏{‏فزادتهم رجسا إلى رجسهم‏}‏التوبة‏:‏ 125‏]‏ أي نتنا إلى نتنهم قاله الكسائي وقال الفراء الرجز هو الرجس‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ كما يقال السدغ والزدغ وكذا رجس ورجز بمعنى‏.‏ قال الفراء‏:‏ وذكر بعضهم أن الرجز بالضم اسم صنم كانوا يعبدونه وقرئ بذلك في قوله تعالى‏{‏والرجز فاهجر‏}‏ والرجز بفتح الراء والجيم نوع من الشعر وأنكر الخليل أن يكون شعرا وهو مشتق من الرجز وهو داء يصيب الإبل في أعجازها فإذا ثارت ارتعشت أفخاذها‏.‏

قوله تعالى‏{‏بما كانوا يفسقون ‏{‏أي بفسقهم والفسق الخروج وقد تقدم‏.‏ وقرأ ابن وثاب والنخعي ‏{‏يفسقون‏{‏ بكسر السين‏.‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏60‏)‏

‏{‏وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ استسقى موسى لقومه‏{‏ كسرت الذال لالتقاء الساكنين والسين سين السؤال مثل استعلم واستخبر واستنصر ونحو ذلك أي طلب وسأل السقيَ لقومه‏.‏ والعرب تقول‏:‏ سقيته وأسقيته لغتان بمعنى، قال‏:‏‏:‏

سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال

وقيل‏:‏ سقيته من سقي الشفة وأسقيته دللته على الماء‏.‏

الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح‏.‏ وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وحسبك به فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد فأنى نسقى لكن قد قال صلى في حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا‏)‏ الحديث‏.‏ وسيأتي بكماله إن شاء الله‏.‏

سنة الاستسقاء الخروج إلى المصلى - على الصفة التي ذكرنا - والخطبة والصلاة وبهذا قال جمهور العلماء‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنته صلاة ولا خروج وإنما هو دعاء لا غير‏.‏ واحتج بحديث أنس الصحيح أخرجه البخاري ومسلم‏.‏ ولا حجة له فيه فإن ذلك كان دعاء عجلت إجابته فاكتفي به عما سواه ولم يقصد بذلك بيان سنة ولما قصد البيان بين بفعله حسب ما رواه عبدالله بن يزيد المازني قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه ثم صلى ركعتين رواه مسلم‏.‏ وسيأتي من أحكام الاستسقاء زيادة في سورة ‏{‏هود‏{‏ إن شاء الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقلنا اضرب بعصاك الحجر‏{‏ العصا‏:‏ معروف وهو اسم مقصور مؤنث وألفه منقلبة عن واو، قال‏:‏

على عصويها سابري مشبرق

والجمع عُصِيّ وعِصِيّ وهو فعول وإنما كسرت العين لما بعدها من الكسرة وأعص أيضا مثله مثل زمن وأزمن وفي المثل‏{‏العصا من العصية‏{‏ أي بعض الأمر من بعض وقولهم ‏{‏ألقى عصاه‏{‏ أي أقام وترك الأسفار وهو مَثَل‏.‏ قال‏:‏

فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر

وفي التنزيل‏{‏وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها‏}‏طه‏:‏17 - 18‏]‏ وهناك يأتي الكلام في منافعها إن شاء الله تعالى‏.‏ قال الفراء‏:‏ أول لحن سمع بالعراق هذه عصاتي وقد يعبر بالعصا عن الاجتماع والافتراق، ومنه يقال في الخوارج‏:‏ قد شقوا عصا المسلمين أي اجتماعهم وائتلافهم‏.‏ وانشقت العصا أي وقع الخلاف قال الشاعر‏:‏

إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند

أي يكفيك ويكفي الضحاك‏.‏ وقولهم‏:‏ لا ترفع عصاك عن أهلك براد به الأدب والله أعلم‏.‏ والحجر معروف وقياس جمعه في أدنى العدد أحجار، وفي الكثير حجار وحجارة، والحجارة نادر‏.‏ وهو كقولنا‏:‏ جمل وجمالة، وذكر وذكارة، كذا قال ابن فارس والجوهري‏.‏

قلت‏:‏ وفي القرآن ‏{‏فهي كالحجارة‏}‏البقرة‏:‏ 74‏]‏ ‏{‏وإن من الحجارة‏}‏البقرة‏:‏ 74‏]‏ ‏{‏قل كونوا حجارة‏}‏الإسراء‏:‏ 50‏]‏ ‏{‏ترميهم بحجارة‏}‏الفيل‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏وأمطرنا عليهم حجارة‏}‏الحجر‏:‏ 74‏]‏ فكيف يكون نادرا، إلا أن يريدا أنه نادر في القياس كثير في الاستعمال فصيح‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فانفجرت منه ‏{‏في الكلام حذف تقديره فضرب فانفجرت‏.‏ وقد كان تعالى قادرا على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب لكن أراد أن بربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد‏.‏ والانفجار‏:‏ الانشقاق ومنه انشق الفجر‏.‏ وانفجر الماء انفجارا‏:‏ انفتح‏.‏ والفجرة‏:‏ موضع تفجر الماء‏.‏ والانبجاس أضيق من الانفجار، لأنه يكون انبجاسا ثم يصير انفجارا‏.‏ وقيل‏:‏ انبجس وتبجس وتفجر وتفتق بمعنى واحد حكاه الهروي وغيره‏.‏

قوله تعالى‏{‏اثنتا عشرة عينا‏{‏ ‏{‏اثنتا‏{‏ في موضع رفع بـ ‏{‏انفجرت‏{‏ وعلامة الرفع فيها الألف وأعربت دون نظائرها لأن التثنية معربة أبدا لصحة معناها‏.‏ ‏{‏عينا‏{‏ نصب على البيان‏.‏ وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى ‏{‏عشرة‏{‏ بكسر الشين وهي لغة بني تميم وهذا من لغتهم نادر، لأن سبيلهم التخفيف‏.‏ ولغة أهل الحجاز ‏{‏عشْرة‏{‏ وسبيلهم التثقيل‏.‏ قال جميعه النحاس‏.‏ والعين من الأسماء المشتركة يقال‏:‏ عن الماء وعين الإنسان وعين الركبة وعين الشمس‏.‏ والعَيْن‏:‏ سحابة تقبل من ناحية القبلة والعين‏:‏ مطر يدوم خمسا أو ستا لا يقلع‏.‏ وبلد قليل العَيْن‏:‏ أي قليل الناس‏.‏ وما بها عين، محركة الياء والعين‏:‏ الثقب في المزادة والعَين من الماء مشبهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها كخروج الدمع من عين الحيوان‏.‏ وقيل‏:‏ لما كان عين الحيوان أشرف ما فيه شبهت به عين الماء لأنها أشرف ما في الأرض‏.‏

لما استسقى موسى عليه السلام لقومه أمر أن يضرب عند استسقائه بعصاه حجرا قيل مربعا طوريامن الطور على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحله في منزلته من المرحلة الأولى وهذا أعظم في الآية والإعجاز‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أطلق له اسم الحجر ليضرب موسى أي حجر شاء وهذا أبلغ في الإعجاز‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله تعالى أمره أن يضرب حجرا بعينه بينه لموسى عليه السلام ولذلك ذكر بلفظ التعريف‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه لما اغتسل وفر بثوبه حتى برأه الله مما رماه به قومه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولا خلاف أنه كان حجرا منفصلا مربعا تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون‏.‏

قلت‏:‏ ما أوتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة فإنا نشاهد الماء يتفجر من الأحجار آناء الليل وآناء النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم يخرج الماء من بين لحم ودم‏.‏ روى الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات عن عبدالله قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد ماء فأتي بتور‏؟‏‏؟‏ فأدخل يده فيه فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه ويقول‏:‏ حي على الطهور قال الأعمش‏:‏ فحدثني سالم بن أبي الجعد قال‏:‏ قلت لجابر‏:‏ كم كنتم يومئذ‏؟‏ قال ألفا وخمسمائة‏.‏ لفظ النسائي‏.‏

قوله تعالى‏{‏قد علم كل أناس مشربهم‏}‏ يعني أن لكل سبط منهم عينا قد عرفها لا يشرب من غيرها‏.‏ والمشرب‏:‏ موضع الشرب وقيل‏:‏ المشروب‏.‏ والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها‏.‏ قال عطاء‏:‏ كان للحجر أربعة أوجه يخرج من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين لا يخالطهم سواهم‏.‏ وبلغنا أنه كان في كل سبط خمسون ألف مقاتل سوى خيلهم ودوابهم‏.‏ قال عطاء‏:‏ كان يظهر على كل موضع من ضربة موسى مثل ثدي المرأة على الحجر فيعرق أولا ثم يسيل‏.‏

قوله تعالى‏{‏كلوا واشربوا من رزق الله‏{‏ في الكلام حذف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر المنفصل‏.‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تعثوا في الأرض‏{‏ أي لا تفسدوا والعيث‏:‏ شدة الفساد، نهاهم عن ذلك‏.‏ يقال‏:‏ عث يعث عثيا وعثا يعثو عثوا، وعاث يعيث عيثا وعيوثا ومعاثا والأول لغة القرآن‏.‏ ويقال‏:‏ عث يعث في المضاعف أفسد ومنه العثة، وهي السوسة التي تلحس الصوف‏.‏

قوله تعالى‏{‏مفسدين‏{‏ حال وتكرر المعنى تأكيدا لاختلاف اللفظ‏.‏ وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها والتقدم في المعاصي والنهي عنها‏.‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏61‏)‏

‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نصبر‏{‏ كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الأول بمصر قال الحسن‏:‏ كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا‏:‏ لن نصبر على طعام واحد وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فلذلك قالوا طعام واحد وقيل لتكرارهما‏:‏ في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة‏:‏ هو على أمر واحد لملازمته لذلك‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه وكذلك كانوا فهم أول من اتخذ العبيد والخدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏على طعام واحد‏}‏ الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب قال الله تعالى ‏{‏ومن لم يطعمه فإنه مني‏{‏ وقال‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏المائدة‏:‏ 93‏]‏ أي ما شربوه من الخمر على ما يأتي بيانه‏.‏ وإن كان السلوى العسل - كما حكى المؤرج - فهو مشروب أيضا‏.‏ وربما خص بالطعام البر والتمر كما في حديث أبي سعيد الخدري قال‏:‏ كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير الحديث‏.‏ والعرف جار بأن القائل‏:‏ ذهبت إلى سوق الطعام فليس يفهم منه إلا موضع به دون غيره مما يؤكل أو يشرب والطعم بالفتح هو ما يؤديه الذوق يقال‏:‏ طعمه مر‏.‏ والطعم أيضا‏:‏ ما يشتهى منه يقال‏:‏ ليس له طعم‏.‏ وما فلان بذي طعم‏:‏ إذا كان غثا‏.‏ والطعم بالضم الطعام قال أبو خراش‏:‏

أرد شجاع البطن لو تعلمينه وأوثر غيري من عيالك بالطعم

وأغتبق الماء القراح فأنتهي إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم

أراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى‏.‏ منه وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا أكل وذاق ومنه قوله تعالى ‏{‏ومن لم يطعمه فإنه مني‏}‏البقرة‏:‏ 249‏]‏ أي من لم يذقه‏.‏ وقال‏{‏فإذا طعمتم فانتشروا‏}‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ أي أكلتم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم‏:‏ ‏(‏إنها طعام طعم وشفاء سقم‏)‏ واستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إذا استطعمكم الإمام فأطعموه‏)‏ يقول‏:‏ إذا استفتح فافتحوا عليه وفلان ما يطعم النوم إلا قائما‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

نعاما بوجرة صفر الخدو د ما تطعم النوم إلا صياما

قوله تعالى‏{‏فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض‏{‏ لغة بني عامر ‏{‏فادع‏{‏ بكسر العين لالتقاء الساكنين، يجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف‏.‏ و‏{‏يخرج‏{‏ مجزوم على معنى سلْه وقل له‏:‏ أخرج، يخرج‏.‏ وقيل‏:‏ هو على معنى الدعاء على تقدير حذف اللام وضعفه الزجاج‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في قول ‏{‏مما‏{‏ زائدة في قول الأخفش وغير زائدة في قول سيبويه لأن الكلام موجب‏.‏ قال النحاس‏:‏ وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولا لـ ‏{‏يخرج‏{‏ فأراد أن يجعل ‏{‏ما‏{‏ مفعولا‏.‏ والأوْلى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سائر الكلام، التقدير‏:‏ يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا‏.‏ فـ ‏{‏من‏{‏ الأولى على هذا للتبعيض والثانية للتخصيص‏.‏

قوله تعالى‏{‏من بقلها‏{‏ بدل من ‏{‏ما‏{‏ بإعادة الحرف، والبقل معروف وهو كل نبات ليس له ساق‏.‏ والشجر‏:‏ ما له ساق‏.‏ و‏{‏ وقثائها‏{‏ عطف عليه وكذا ما بعده فاعلمه والقثاء أيضا معروف وقد تضم قافه وهى قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف لغتان والكسر‏.‏ أكثر وقيل في جمع قثاء‏:‏ قثائي مثل علباء وعلابي إلا أن قثاء من ذوات الواو تقول‏:‏ اقثأئت القوم أي أطعمتهم ذلك‏.‏ وقثأت القدر سكنت غليانها بالماء قال الجعدي‏:‏

تفور علينا قدرهم فنديمها ونفثؤها عنا إذا حميها غلا

وقثأت الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه‏.‏ وعدا حتى أفثأ أي أعيا وانبهر وأفثأ الحر أي سكن وفتر ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم‏:‏ إن الرثيئة تفثأ في الغضب‏.‏ وأصله أن رجلا كان غضب على قوم وكان مع غضبه جامعا فسقوه رثيئة فسكن غضبه وكف عنهم‏.‏ الرثيئة‏:‏ اللبن المحلوب على الحامض ليخثر‏.‏ رثأت اللبن رثأ إذا حلبته على حامض فخثر والاسم الرثيئة وارتثأ اللبن خثر‏.‏

و‏"‏روى ابن ماجه ‏"‏حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة وهذا إسناد صحيح‏.‏

قوله تعالى‏{‏وفومها‏{‏ اختلف في الفوم فقيل هو الثوم لأنه المشاكل للبصل‏.‏ رواه جويبر عن الضحاك والثاء تبدل من الفاء كما قالوا‏:‏ مغافير ومغاثير‏.‏ وجدث وجدف للقبر‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏ثومها‏{‏ بالثاء المثلثة وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ وقال أمية بن أبي الصلت‏:‏

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل

الفراديس‏:‏ واحدها فرديس‏.‏ وكرم مفردس أي معرش‏.‏ وقال حسان‏:‏

وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل

يعني الثوم والبصل وهو قول الكسائي والنضر بن شميل‏.‏ وقيل‏:‏ الفوم الحنطة‏.‏ روي عباس أيضا وأكثر المفسرين واختاره النحاس قال‏:‏ وهو أولى ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح وليس جويبر بنظير لروايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء والإبدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب‏.‏ وأنشد عباس لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة قول أحيحة بن الجلاح‏:‏

قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ورد المدينة عن زراعة فوم

وقل أبو إسحاق الزجاج‏:‏ وكيف يطلب القوم طعاما لا بر فيه والبر أصل الغذاء‏!‏‏.‏ وقال الجوهري أبو نصر‏:‏ الفوم الحنطة‏.‏ وأنشد الأخفش‏:‏

قد كنت أحسبني كأغنى واجد نزل المدينة عن زراعة فوم

وقال ابن دريد‏:‏ الفومة السنبلة وأنشد‏:‏

وقال ربيئهم لما أتانا بكفه فومة أو فومتان

والهاء في ‏{‏كفه‏{‏ غير مشبعة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الفوم الحمص لغة شامية‏.‏ وبائعه فامي مغير عن فومي لأنهم قد يغيرون في النسب، كما قالوا‏:‏ سهلي ودهري‏.‏ ويقال‏:‏ فوموا لنا أي اختبزوا‏.‏ قال الفراء‏:‏ هي لغة قديمة‏.‏ وقال عطاء وقتادة‏:‏ الفوم كل حب يختبز‏.‏

 مسألة‏:‏ اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول‏.‏ جمهور العلماء إلى إباحة ذلك، للأحاديث الثابتة في ذلك وذهبت طائفة من أهل الظاهر - القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا - إلى المنع، وقالوا‏:‏ كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به‏.‏ واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها خبيثة، والله عز قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث‏.‏ ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ببدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا، قال‏:‏ فأخبر بما فيها من البقول، فقال‏:‏ ‏(‏قربوها‏)‏ - إلى بعض أصحابه كان معه - فلما رآه كره أكلها، قال‏:‏ ‏(‏كل فإني أناجي من لا تناجي‏)‏‏.‏‏"‏ أخرجه مسلم وأبو داود‏"‏‏.‏ فهذا بين في الخصوص له والإباحة لغيره‏.‏ وفي‏"‏ صحيح مسلم‏"‏ أيضا عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فيه ثوم، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له‏:‏ لم يأكل‏.‏ ففزع وصعد إليه فقال‏:‏ أحرام هو‏؟‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ولكني أكرهه‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فإني أكره ما تكره أو ما كرهت، قال‏:‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى ‏(‏يعني يأتيه الوحي‏)‏‏.‏ فهذا نص على عدم التحريم‏.‏ وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها‏:‏ ‏(‏أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها‏)‏ الأحاديث تشعر بأن الحكم خاص به، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك‏.‏ لكن قد علمنا هذا الحكم في حديث جابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال‏:‏ ‏(‏من أكل من هذه البقلة الثوم وقال مرة‏:‏ من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم‏)‏ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم‏.‏ ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا‏.‏ خرجه مسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعدسها وبصلها‏{‏ العدس معروف‏.‏ والعدسة‏:‏ بثرة تخرج بالإنسان، وربما قتلت‏.‏ وعدس‏:‏ زجر للبغال، قال‏:‏

عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق

والعدس‏:‏ شدة الوطء، والكدح أيضا، يقال‏:‏ عدسة‏.‏ وعدس في الأرض‏:‏ ذهب فيها‏.‏ وعدست إليه المنية أي سارت، قال الكميت‏:‏

أكلفها هول الظلام ولم أزل أخا الليل معدوسا إلي وعادسا

أي يسار إلي بالليل‏.‏ وعدس‏:‏ لغة في حدس، قاله الجوهري‏.‏ ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي أنه قال‏:‏ ‏(‏عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم‏)‏، ذكره الثعلبي وغيره‏.‏ وكان عمر بن عبدالعزيز يأكل يوما خبزا بزيت، ويوما بلحم، ويوما بعدس‏.‏ قال الحليمي‏:‏ والعدس والزيت طعام الصالحين، ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية‏.‏ وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة، لا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم‏.‏ والحنطة من جملة الحبوب وهي الفوم على الصحيح، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشبع هو وأهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير‏{‏ الاستبدال‏:‏ وضع الشيء موضع الآخر، ومنه البدل، وقد تقدم‏.‏ و‏{‏أدنى‏{‏ مأخوذ عند الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة، من قولهم‏:‏ ثوب مقارب، أي قليل الثمن‏.‏ وقال علي بن سليمان‏:‏ هو مهموز من الدنيء البين الدناءة بمعنى الأخس، إلا أنه خفف همزته‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من الدون أي الأحط، فأصله أدون، أفعل، قلب فجاء أفلع، وحولت الواو ألفا لتطرفها‏.‏ وقرئ في الشواذ ‏{‏أدنى‏{‏‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير‏.‏

واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهى خمسة‏:‏

الأول‏:‏ أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل، قاله الزجاج‏.‏

الثاني‏:‏ لما كان المن والسلوى طعاما مّن الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل كان أدنى في هذا الوجه‏.‏

الثالث‏:‏ لما كان ما مّن الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة‏.‏

الرابع‏:‏ لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب كان أدنى‏.‏

الخامس‏:‏ لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، كانت أدنى من هذا الوجه‏.‏

 مسألة‏:‏ في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، ويشرب الماء البارد العذب، وسيأتي هذا المعنى في ‏{‏المائدة‏{‏ و‏{‏النحل‏{‏ إن شاء الله مستوفى‏.‏

قوله تعالى‏{‏اهبطوا مصرا‏{‏ تقدم معنى الهبوط، وهذا أمر معناه التعجيز، كقوله تعالى‏{‏قل كونوا حجارة أو حديدا‏}‏الإسراء‏:‏ 50‏]‏ لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم أعطوا ما طلبوه‏.‏ و‏{‏مصرا‏{‏ بالتنوين منكرا قراءة الجمهور، وهو خط المصحف، قال مجاهد وغيره‏:‏ فمن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين‏.‏ و روى عكرمة عن ابن عباس في قوله‏{‏اهبطوا مصرا‏{‏ قال‏:‏ مصرا من هذه الأمصار‏.‏ وقالت طائفة ممن صرفها أيضا‏:‏ أراد مصر فرعون بعينها‏.‏ استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه‏.‏ واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث، بني إسرائيل ديار آل فرعون وأثارهم، وأجازوا صرفها‏.‏ قال الأخفش والكسائي‏:‏ لخفتها وشبهها بهند ودعد، وأنشد‏:‏

لم تتلفع بفضل مئزرها دعد ولم تسق دعد في العلب

فجمع بين اللغتين‏.‏ وسيبويه والخليل والفراء لا يجيزون هذا، لأنك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف‏.‏ وقال غير الأخفش‏:‏ أراد المكان فصرف‏.‏ وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة‏{‏مصر‏{‏ بترك الصرف‏.‏ وكذلك هي في مصحف أبى بن كعب وقراءة ابن مسعود‏.‏ وقالوا‏:‏ هي مصر فرعون‏.‏ قال أشهب قال لي مالك‏:‏ هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون، ذكره ابن عطية‏.‏ والمصر أصله في اللغة الحد‏.‏ ومصر الدار‏:‏ حدودها‏.‏ قال ابن فارس ويقال‏:‏ إن أهل هجر يكتبون في شروطهم ‏{‏اشترى فلان الدار بمصورها‏{‏ أي حدودها، قال عدي‏:‏

وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا

قوله تعالى‏{‏فإن لكم ما سألتم‏{‏ ‏{‏ما‏{‏ نصب بإن، وقرأ ابن وثاب والنخعي ‏{‏سألتم‏{‏ بكسر السين، يقال‏:‏ سألت وسلت بغير همز‏.‏ وهو من ذوات الواو، بدليل قولهم‏:‏ يتساولان‏.‏

قوله تعالى‏{‏وضربت عليهم الذلة والمسكنة‏{‏ أي ألزموهما وقضي عليهم بهما، مأخوذ من ضرب القباب، قال الفرزدق في جرير‏:‏

ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل

وضرب الحاكم على اليد، أي حمل وألزم‏.‏ والذلة‏:‏ الذل والصغار‏.‏ والمسكنة‏:‏ الفقر‏.‏ فلا يوجد يهودي وإن كان غنيا خاليا من زي الفقر وخضوعه ومهانته‏.‏ وقيل‏:‏ الذلة فرض الجزية، عن الحسن وقتادة‏.‏ والمسكنة الخضوع، وهي مأخوذة من السكون، أي قلل الفقر حركته، قاله الزجاج‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الذلة الصغار‏.‏ والمسكنة مصدر المسكين‏.‏ و روى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس‏{‏وضربت عليهم الذلة والمسكنة‏{‏ قال‏:‏ هم أصحاب القبالات‏.‏

قوله تعالى‏{‏وباؤوا بغضب من الله‏{‏ أي انقلبوا ورجعوا، أي لزمهم ذلك‏.‏ ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته‏:‏ ‏(‏أبو ء بنعمتك علي‏)‏ أي أقر بها وألزمها نفسي‏.‏ وأصله في اللغة الرجوع، يقال باء بكذا، أي رجع به، وباء إلى المباءة وهي المنزل أي رجع‏.‏ والبواء‏:‏ الرجوع بالقود‏.‏ وهم في هذا الأمر بواء، أي سواء، يرجعون فيه إلى معنى واحد‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محارمنا لا يبؤؤ الدم بالدم

أي لا يرجع الدم بالدم في القود‏.‏ وقال‏:‏

فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا

أي رجعوا ورجعنا‏.‏ وقد تقدم معنى الغضب في الفاتحة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك‏{‏ تعليل‏.‏ ‏{‏بأنهم كانوا يكفرون‏{‏ أي يكذبون، ‏{‏بآيات الله‏{‏ أي بكتابه ومعجزات أنبيائه، كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام‏.‏ و‏{‏ ويقتلون النبيين‏{‏ معطوف على ‏{‏يكفرون‏{‏ وروي عن الحسن ‏{‏يقتلون‏{‏ وعنه أيضا كالجماعة‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏النبيئين‏{‏ بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين‏:‏ في سورة الأحزاب‏{‏إن وهبت نفسها للنبي إن أراد‏}‏الأحزاب‏.‏ 50‏]‏‏.‏ و‏{‏لا تدخلوا بيوت النبي إلا‏}‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ فإنه قرأ بلا مد ولا همز‏.‏ وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين‏.‏ وترك الهمز في جميع ذلك الباقون‏.‏ فأما من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخر، واسم فاعله منبئ‏.‏ ويجمع نبيء أنبياء، وقد جاء في جمع نبي نبآء، قال العباس بن مرداس السلمي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

يا خاتم الأنبياء إنك مرسل بالحق كل هدى السبيل هداكا

هذا معنى قراءة الهمز‏.‏ واختلف القائلون بترك الهمز، فمنهم من اشتق اشتقاق من همز، ثم سهل الهمز‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر‏.‏ فالنبي من النبوة وهو الارتفاع، فمنزلة النبي رفيعة‏.‏ والنبي بترك الهمز أيضا الطريق، فسمي الرسول نبيا لاهتداء الخلق به كالطريق، قال الشاعر‏:‏

لأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبي من الكاثب

رتمت الشيء‏:‏ كسرته، يقال‏:‏ رتم أنفه ورثمه، بالتاء والثاء جميعا‏.‏ والرتم أيضا المرتوم أي المكسور‏.‏ والكاثب اسم جبل‏.‏ فالأنبياء لنا كالسبل في الأرض‏.‏ ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ السلام عليك يا نبيء الله، وهمز‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لست بنبيء الله - وهمز - ولكني نبي الله‏)‏ ولم يهمز‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ضعف سند هذا الحديث، ومما يقوي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح‏:‏

يا خاتم الأنبياء‏.‏‏.‏‏.‏

ولم يؤثر في ذلك إنكار‏.‏

قوله تعالى‏{‏بغير الحق‏{‏ تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه‏{‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق، ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به‏.‏ قيل له‏:‏ ليس كذلك، وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم وليس بحق، فكان هذا تعظيما للشنعة عليهم، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن يقتل على الحق، فصرح قوله‏{‏بغير الحق‏{‏ عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء‏؟‏ قيل‏:‏ ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بخذلان لهم‏.‏ قال ابن عباس والحسن‏:‏ لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏{‏ ‏{‏ذلك‏{‏ رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه‏.‏ والباء في ‏{‏بما‏{‏ باء السبب‏.‏ قال الأخفش‏:‏ أي بعصيانهم‏.‏ والعصيان‏:‏ خلاف الطاعة‏.‏ واعتصت النواة إذا اشتدت‏.‏ والاعتداء‏:‏ تجاوز الحد في كل شيء، وعرف في الظلم والمعاصي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏62‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا‏{‏ أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال سفيان‏:‏ المراد المنافقون‏.‏ كأنه قال‏:‏ الذين أمنوا في ظاهر أمرهم، فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم

قوله تعالى‏{‏والذين هادوا ‏{‏معناه صاروا يهودا، نسبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام، فقلبت العرب الذال دالا، لأن الأعجمية إذا عربت غيرت عن لفظها‏.‏ وقيل‏:‏ سموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل‏.‏ هاد‏:‏ تاب‏.‏ والهائد‏:‏ التائب، قال الشاعر‏:‏

إني امرؤ من حبه هائد

أي تائب‏.‏ وفي التنزيل‏{‏إنا هدنا إليك‏}‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ أي تبنا‏.‏ وهاد القوم يهودون هودا وهيادة إذا تابوا‏.‏ وقال ابن عرفة‏{‏هدنا إليك‏{‏ أي سكنا إلى أمرك‏.‏ والهوادة السكون والموادعة‏.‏ قال‏:‏ ومنه قوله تعالى‏{‏إن الذين أمنوا والذين هادوا‏{‏‏.‏ وقرأ أبو السمال‏{‏هادوا‏{‏ بفتح الدال‏.‏

قوله تعالى‏{‏والنصارى ‏{‏جمع واحده نصراني‏.‏ وقيل‏:‏ نصران بإسقاط الياء، وهذا قول سيبويه‏.‏ والأنثى نصرانة، كندمان وندمانة‏.‏ وهو نكرة يعرف بالألف واللام، قال الشاعر‏:‏

صدت كما صد عما لا يحل له ساقي نصارى قبيل الفصح صوام

فوصفه بالنكرة‏.‏ وقال الخليل‏:‏ واحد النصارى نصري، كمهري ومهارى‏.‏ وأنشد سيبويه شاهدا على قوله‏:‏

تراه إذا دار العشا متحنفا ويضحي لديه وهو نصران شامس

وأنشد‏:‏

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما أسجدت نصرانة لم تحنف

يقال‏:‏ أسجد إذا مال‏.‏ ولكن لا يستعمل نصران ونصرانة إلا بياءي النسب، لأنهم قالوا‏:‏ رجل نصراني وامرأة نصرانية‏.‏ ونصره‏:‏ جعله نصرانيا‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏فأبواه يهودانه أو ينصرانه‏)‏‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار‏)‏‏.‏ وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها، وقياسه النصرانيون‏.‏ ثم قيل‏:‏ سموا بذلك لقرية تسمى ‏{‏ناصرة‏{‏ كان ينزلها عيسى عليه السلام فنسب إليها فقيل‏:‏ عيسى الناصري، فلما نسب أصحابه إليه قيل النصارى، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ ونصران قرية بالشام ينسب إليها النصارى، ويقال ناصرة‏.‏ وقيل‏:‏ سموا بذلك لنصرة بعضهم بعضا، قال الشاعر‏:‏

لما رأيت نبطا أنصارا شمرت عن ركبتي الإزارا

كنت لهم من النصارى جارا

وقيل‏:‏ سموا بذلك لقول‏{‏من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله‏}‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏والصابئين‏{‏ جمع صابئ، وقيل‏:‏ صاب، ولذلك اختلفوا في همزه، وهمزه الجمهور إلا نافعا‏.‏ فمن همزه جعله من صبأت النجوم إذا طلعت، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت‏.‏ ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال‏.‏ فالصابئ في اللغة‏:‏ من خرج ومال من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ‏.‏ فالصابئون قد خرجوا من دين أهل الكتاب‏.‏

لا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل كتاب ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم وأكل طعامهم على ما يأتي بيانه في المائدة وضرب الجزية عليهم، على ما يأتي في، سورة ‏{‏براءة‏{‏ إن شاء الله‏.‏ واختلف في الصابئين، فقال السدي‏:‏ هم فرقة من أهل الكتاب، وقاله إسحاق بن راهويه‏.‏ قال ابن المنذر وقال إسحاق‏:‏ لا بأس بذبائح الصابئين لأنهم طائفة من أهل الكتاب‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا بئس بذبائحهم ومناكحة نسائهم‏.‏ وقال الخليل‏:‏ هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام‏.‏ وقال مجاهد والحسن وابن أبي نجيح‏:‏ هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم‏.‏ ابن عباس‏:‏ ولا تنكح نساؤهم‏.‏ وقال الحسن أيضا وقتادة هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور ويصلون الخمس، رآهم زياد ابن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة‏.‏ والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض علمائنا أنهم موحدون معتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة، ولهذا أفتى أبو سعيد الاصطخري القادر بالله بكفرهم حين سأله عنهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ‏{‏أي صدق‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في قوله‏{‏من آمن‏{‏ في موضع نصب بدل من ‏{‏الذين‏{‏‏.‏ والفاء في قوله ‏{‏فلهم‏{‏ داخلة بسبب الإبهام الذي في ‏{‏من‏{‏‏.‏ و‏{‏لهم أجرهم‏{‏ ابتداء وخبر في موضع خبر إن‏.‏ ويحسن أن يكون ‏{‏من‏{‏ في موضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط‏.‏ و‏{‏آمن‏{‏ في موضع جزم بالشرط، والفاء الجواب‏.‏ و‏{‏لهم أجرهم‏{‏ خبر ‏{‏من‏{‏، والجملة كلها خبر ‏{‏إن‏{‏، والعائد على ‏{‏الذين‏{‏ محذوف، تقديره من آمن منهم بالله‏.‏ وفي الإيمان بالله واليوم الآخر اندراج الإيمان بالرسل والكتب والبعث‏.‏

إن قال قائل‏:‏ لم جمع الضمير في قوله تعالى‏{‏لهم أجرهم‏{‏ و‏{‏آمن‏{‏ لفظ مفرد ليس بجمع، وإنما كان يستقيم لو قال‏:‏ له أجره‏.‏ فالجواب أن ‏{‏من‏{‏ يقع على الواحد والتثنية والجمع، فجائز أن يرجع الضمير مفردا ومثنى ومجموعا، قال الله تعالى‏{‏ومنهم من يستمعون إليك‏}‏يونس‏:‏ 42‏]‏ على المعنى‏.‏ وقال‏{‏ومنهم من يستمع إليك‏{‏ على اللفظ‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ألما بسلمى عنكما إن عرضتما وقولا لها عوجي على من تخلفوا

وقال الفرزدق‏:‏

تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فحمل على المعنى ولو حمل على اللفظ لقال‏:‏ يصطحب وتخلف‏.‏ قال تعالى‏{‏ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات‏{‏ فحمل على اللفظ‏.‏ ثم قال‏{‏خالدين‏{‏ فحمل على المعنى، ولو راعى اللفظ لقال‏:‏ خالدا فيها‏.‏ وإذا جرى ما بعد ‏{‏من‏{‏ على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى كما في هذه الآية‏.‏ وإذا جرى ما بعدها على المعنى لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ لأن الإلباس يدخل في الكلام‏.‏ وقد مضى الكلام في قوله تعالى‏{‏فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون‏{‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

روي عن ابن عباس أن قوله‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادو‏}‏الحج‏:‏ 17‏]‏ الآية‏.‏ منسوخ بقوله تعالى‏{‏يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه‏}‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏ الآية‏.‏ وقال غيره‏:‏ ليست بمنسوخة‏.‏ وهى فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام‏.‏